الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مقدمة ابن الصلاح المسمى بـ «معرفة أنواع علوم الحديث» **
*1* وقد سبق بيان كثير منه في ضمن النوعين قبله. شدد قوم في الرواية فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرطوا. ومن مذاهب التشديد مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه وتذكره، وذلك مروي عن (مالك) و(أبي حنيفة) رضي الله عنهما. وذهب إليه من أصحاب الشافعي (أبو بكر الصيدلاني المروزي). ومنها مذهب من أجاز الاعتماد في الرواية على كتابه، غير أنه لو أعار كتابه وأخرجه من يده لم يرَ الرواية منه، لغيبته عنه. وقد سبقت حكايتنا لمذاهب عن أهل التساهل وإبطالها، في ضمن ما تقدم من شرح وجوه الأخذ والتحمل. ومن أهل التساهل قوم سمعوا كتباً مصنفة وتهاونوا، حتى إذا طعنوا في السن واحتيج إليهم حملهم الجهل والشره على أن رووها من نسخ مشتراة، أو مستعارة (120) غير مقابلة، فعدهم (الحاكم أبو عبد الله الحافظ) في طبقات المجروحين. قال: وهم يتوهمون أنهم في روايتها صادقون. وقال: هذا مما كثر في الناس، وتعاطاه قوم من أكابر العلماء والمعروفين بالصلاح. قلت: ومن المتساهلين عبد الله بن لهيعة المصري، تُرك الاحتجاج بروايته مع جلالته، لتساهله. ذكر عن (يحيى بن حسان): أنه رأى قوماً معهم جزء سمعوه من (ابن لهيعة)، فنظر فيه، فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث (ابن لهيعة)، فجاء إلى (ابن لهيعة) فأخبره بذلك. فقال: ما أصنع ؟ يجيئوني بكتاب، فيقولون: هذا من حديثك، فأحدثهم به. ومثل هذا واقع من شيوخ زماننا، يجيء إلى أحدهم الطالب بجزء أو كتاب، فيقول: هذا روايتك، فيمكنه من قراءته عليه مقلداً له، من غير أن يبحث بحيث يحصل له الثقة بصحة ذلك. والصواب: ما عليه الجمهور، وهو التوسط بين الإفراط والتفريط. فإذا قام الراوي في الأخذ والتحمل بالشرط الذي تقدم شرحه، وقابل كتابه وضبط سماعه على الوجه الذي سبق ذكره، جازت له الرواية منه، وإن أعاره وغاب عنه: إذا كان الغالب من أمره سلامته من التبديل والتغيير، لا سيما إذا كان ممن لا يخفى عليه - في الغالب - لو غُـِّير شيء منه وبُدِّل - تغييره وتبديله، وذلك لأن الاعتماد في باب الرواية على غالب الظن، فإذا حصل أجزأ ولم يُشترط مزيد عليه، والله أعلم. وقد منع منه غير واحد من العلماء، ورخص فيه بعضهم، والله أعلم. (121) ثم وجدت (الخطيب) قد حكى مصداق ذلك عن أكثر أهل الحديث. فذكر فيما: إذا وجد أصل المحدث ولم يكتب فيه سماعه، أو وجد نسخة كتبت عن الشيخ تسكن نفسه إلى صحتها: أن عامة أصحاب الحديث منعوا من روايته من ذلك. وجاء عن (أيوب السختياني) و(محمد بن بكر البرساني) الترخص فيه. قلت: اللهم إلا أن تكون له إجازة من شيخه عامة لمروياته، أو نحو ذلك، فيجوز له حينئذ الرواية منها، إذ ليس فيه أكثر من رواية تلك الزيادات بالإجازة بلفظ (أخبرنا) أو (حدثنا) من غير بيان للإجازة فيها. والأمر فيه ذلك قريب يقع مثله في محل التسامح. وقد حكينا فيما تقدم أنه لا غناء في كل سماع عن الإجازة، ليقع ما يسقط في السماع على وجه السهو وغيره من كلمات أو أكثر مروياً بالإجازة، وإن لم يذكر لفظها. فإن كان الذي في النسخة سماع شيخ شيخه، أو هي مسموعة على شيخ شيخه، أو مروية عن شيخ شيخه، فينبغي له حينئذ في روايته منها أن تكون له إجازة شاملة من شيخه، ولشيخه إجازة شاملة من شيخه وهذا تيسير حسن، هدانا الله له - وله الحمد - والحاجة إليه ماسّة في زماننا جداً. والله أعلم. الثالث: إذا وجد الحافظ في كتابه خلاف ما يحفظه هكذا فعل (شعبة) وغيره. (122) وهكذا إذا خالفه فيما يحفظه بعض الحفاظ، فليقل (حفظي كذا وكذا، وقال فيه فلان، أو قال فيه غيري: كذا وكذا) أو شبه هذا من الكلام. كذلك فعل (سفيان الثوري) وغيره، والله أعلم. فعن (أبي حنيفة) رحمه الله وبعض (أصحاب الشافعي) رحمه الله: أنه لا تجوز له روايته. ومذهب (الشافعي) وأكثر أصحابه و(أبي يوسف) و(محمد): أنه يجوز له روايته. قلت: هذا الخلاف ينبغي أن يبنى على الخلاف السابق قريباً في جواز اعتماد الراوي على كتابه في ضبط ما سمعه، فإن ضبط أصل السماع كضبط المسموع، فكما كان الصحيح - وما عليه أكثر أهل الحديث - تجويز الاعتماد على الكتاب المصون في ضبط المسموع، حتى يجوز له أن يروي ما فيه - وإن كان لا يذكر أحاديثه حديثاً حديثاً - كذلك ليكن هذا إذا وُجد شرطُه، وهو: أن يكون السماع بخطه، أو بخط من يثق به، والكتاب مصون، بحيث يغلب على الظن سلامة ذلك من تطرق التزوير والتغيير إليه، على نحو ما سبق ذكره في ذلك. وهذا إذا لم يتشكك فيه، وسكنت نفسه إلى صحته، فإن تشكك فيه لم يجز الاعتماد عليه، والله أعلم. فإن لم يكن عالماً عارفاً بالألفاظ ومقاصدها، خبيراً بما يحيل معانيها، بصيراً بمقادير التفاوت بينها، فلا خلاف أنه لا يجوز له ذلك، وعليه أن لا يروي ما سمعه إلا على اللفظ الذي سمعه من غير تغيير. فأما إذا كان عالماً عارفاً بذلك، فهذا مما اختلف فيه السلف وأصحاب الحديث وأرباب الفقه والأصول: فجوزه أكثرهم، ولم يجوزه بعض المحدثين وطائفة من الفقهاء والأصوليين من الشافعيين وغيرهم. ومنعه بعضهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازه في غيره. (123) والأصح: جواز ذلك في الجميع، إذا كان عالماً بما وصفناه، قاطعاً بأنه أدى معنى اللفظ الذي بلغه، لأن ذلك هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين. وكثيراً ما كانوا ينقلون معنى واحداً في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معوِّلهَم كان على المعنى دون اللفظ. ثم إن هذا الخلاف لا نراه جارياً - ولا أجراه الناس فيما نعلم - فيما تضمنته بطون الكتب، فليس لأحد أن يغير لفظ شيء من كتاب مصنف، ويثبت بدله فيه لفظاً آخر بمعناه، فإن الرواية بالمعنى رخص فيها من رخص، لما كان عليهم في ضبط الألفاظ والجمود عليها من الحرج والنصب، وذلك غير موجود فيما اشتملت عليه بطون الأوراق والكتب، ولأنه إن ملك تغيير اللفظ فليس يملك تغيير تصنيف غيره، والله أعلم. قال (الخطيب): والصحابة أرباب اللسان، وأعلم الخلق بمعاني الكلام، ولم يكونوا يقولون ذلك إلا تخوفاً من الزلل، لمعرفتهم بما في الرواية على المعنى من الخطر. قلت: وإذا اشتبه على القاريء فيما يقرؤه لفظة، فقرأها على وجه يشك فيه، ثم قال (أو كما قال) فهذا حسن، وهو الصواب في مثله، لأن قوله (أو كما قال) يتضمن إجازة من الراوي وإذناً في رواية صوابها عنه إذا بان، ثم لا يشترط إفراد ذلك بلفظ الإجازة، لما بيناه قريباً، والله أعلم. فمنهم من منع من ذلك مطلقاً، بناء على القول بالمنع من النقل بالمعنى مطلقاً. (124) ومنهم من منع من ذلك، مع تجويزه النقل بالمعنى إذا لم يكن قد رواه على التمام مرة أخرى، ولم يعلم أن غيره قد رواه على التمام. ومنهم من جوز ذلك وأطلق ولم يفصل. وقد روينا عن (مجاهد) أنه قال: أنقص من الحديث ما شئت، ولا تزد فيه. والصحيح التفصيل، وأنه يجوز ذلك من العالم العارف إذا كان ما تركه متميزاً عما نقله، غير متعلق به، بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه. فهذا ينبغي أن يجوز وإن لم يجز النقل بالمعنى، لأن الذي نقله والذي تركه - والحالة هذه - بمنزلة خبرين منفصلين في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر. ثم هذا إذا كان رفيع المنزلة، بحيث لا يتطرق إليه في ذلك تهمة نقله أولاً تماماً ثم نقله ناقصاً، أو: نقله أولاً ناقصاً ثم نقله تاماً. فأما إذا لم يكن كذلك: فقد ذكر (الخطيب الحافظ): أن من روى حديثاً على التمام، وخاف إن رواه مرة أخرى على النقصان أن يتهم بأنه زاد في أول مرة ما لم يكن سمعه، أو أنه نسي في الثاني باقي الحديث لقلة ضبطه وكثرة غلطه، فواجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه. وذكر الإمام (أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي) الفقيه: أن من روى بعض الخبر، ثم أراد أن ينقل تمامه، وكان ممن يتهم بأنه زاد في حديثه: كان ذلك عذراً له في ترك الزيادة وكتمانها. قلت: من كان هذا حاله فليس له من الابتداء أن يروي الحديث غير تام، إذا كان قد تعين عليه أداء تمامه، لأنه إذا رواه أولاً ناقصاً أخرج باقيه عن حيز الإحتجاج به، ودار: بين أن لا يرويه أصلاً فيضيعه رأساً، وبين أن يرويه متهماً فيه فيضيع ثمرته، لسقوط الحجة فيه، والعلم عند الله تعالى. وأما تقطيع المصنف متن الحديث الواحد، وتفريقه في الأبواب: فهو إلى الجواز أقرب، ومن المنع أبعد، وقد فعله (مالك)، و(البخاري)، وغير واحد من أئمة الحديث ولا يخلو من كراهية، والله أعلم. (125) وأخبرنا (أبو بكر بن أبي المعالي الفراوي) - قراءة عليه - قال: أخبرنا الإمام (أبو جدي أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي)، قال: أخبرنا (أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي) قال: أخبرنا الإمام (أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي) قال: حدثني (محمد بن معاذ) قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن (أبي داود السنجي) قال: سمعت (الأصمعي) يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم، إذا لم يعرف النحو: أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)) لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه. قلت: فحق على طالب الحديث أن يتعلم من النحو واللغة ما يتخلص به من شين اللحن والتحريف ومعرتهما. روينا عن شعبة قال: من طلب الحديث ولم يبصر العربية فمثله مثل رجل عليه برنس ليس له رأس، أو كما قال. وعن (حماد بن سلمة) قال: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة لا شعيرة فيها. (126) وأما التصحيف: فسبيل السلامة منه الأخذ من أفواه أهل العلم والضبط، فإن من حُرم ذلك، وكان أخذه وتعلمه من بطون الكتب، كان من شأنه التحريف، ولم يُفلت من التبديل والتصحيف، والله أعلم. فمنهم من كان يري أنه يرويه على الخطأ كما سمعه. وذهب إلى ذلك من التابعين (محمد بن سيرين) و(أبو معمر عبد الله بن سخبرة). وهذا غلو في مذهب اتباع اللفظ والمنع من الرواية بالمعني. ومنهم من رأى تغييره وإصلاحه، وروايته على الصواب. رُوينا ذلك عن (الأوزاعي) و(ابن المبارك) وغيرهما، وهو مذهب المحصلين والعلماء من المحدثين. والقول به في اللحن الذي لا يختلف به المعنى وأمثاله لازم على مذهب تجويز رواية الحديث بالمعنى، وقد سبق أنه قول الأكثرين. وأما إصلاح ذلك وتغييره في كتابه وأصله: فالصواب تركه، وتقرير ما وقع في الأصل على ما هو عليه، مع التضبيب عليه، وبيان الصواب خارجاً في الحاشية فإن ذلك أجمع للمصلحة وأنفى للمفسدة. وقد روينا أن بعض أصحاب الحديث رُئي في المنام، وكأنه قد مر من شفته أو لسانه شيء، فقيل له في ذلك، فقال: لفظة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم غيرتها برأيي، ففعل بي هذا. وكثيراً ما نرى ما يتوهمه كثير من أهل العلم خطأ - وربما غيروه - صواباً ذا وجه صحيح، وإن خفي واستغرب لا سيما فيما يعدونه خطأ من جهة العربية. وذلك لكثرة لغات العرب وتشعبها. وروينا عن (عبد الله بن أحمد بن حنبل) قال: كان إذا مر بأبي لحن فاحش غيره، وإذا كان لحناً سهلاً تركه، وقال: كذا قال الشيخ. وأخبرني بعض أشياخنا: عمن أخبره عن (القاضي الحافظ عياض) -بما معناه واختصاره - أن الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ أن ينقلوا الرواية كما وصلت إليهم، ولا يغيروها في كتبهم حتى في أحرف من القرآن، استمرت الرواية فيها في (127) الكتب على خلاف التلاوة المجمع عليها، ومن غير أن يجيء ذلك في الشواذ. ومن ذلك ما وقع في (الصحيحين) و(الموطأ) وغيرها، لكن أهل المعرفة منهم ينبهون على خطئها عند السماع والقراءة، وفي حواشي الكتب، مع تقريرهم ما في الأصول على ما بلغهم. ومنهم من جسر على تغيير الكتب وإصلاحها، منهم (أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني الوَقَشي)، فإنه - لكثرة مطالعته وافتتانه، وثقوب فهمه، وحدة ذهنه - جسر على الإصلاح كثيراً، وغلط في أشياء من ذلك. وكذلك غيره ممن سلك مسلكه. والأولى سد باب التغيير والإصلاح، لئلا يجسر على ذلك من لا يحسن، وهو أسلم مع التبيين، فيذكر ذلك عند السماع كما وقع، ثم يذكر وجه صوابه: إما من جهة العربية، وإما من جهة الرواية. وإن شاء قرأه أولاً على الصواب، ثم قال (وقع عند شيخنا، أو: في روايتنا، أو: من طريق فلان كذا وكذا). وهذا أولى من الأول، كيلا يتقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. وأصلح ما يعتمد عليه في الإصلاح: أن يكون ما يصلح به الفاسد قد ورد في أحاديث أُخر، فإن ذاكره آمن من أن يكون منقولاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، والله أعلم. فإن لم يكن في ذلك مغايرة في المعنى: فالأمر فيه على ما سبق، وذلك كنحو ما روي عن (مالك) رضي الله عنه أنه قيل له: أرأيت حديث النبي صلى الله عليه وسلم يزاد فيه الواو والألف، والمعنى واحد ؟ فقال: أرجو أن يكون خفيفاً. وإن كان الإصلاح بالزيادة يشتمل على معنى مغاير لما وقع في الأصل: تأكد فيه الحكم بأنه يذكر ما في الأصل، مقروناً بالتنبيه على ما سقط، ليسلم من معرة الخطأ، ومن أن يقول على شيخه ما لم يقل. حدث (أبو نعيم الفضل بن دكين) عن شيخ له بحديث قال فيه (عن بحينة) فقال أبو نعيم: إنما هو (ابن بحينة) ولكنه قال (بحينة). (128) وإذا كان من دون موضع الكلام الساقط معلوماً أنه قد أُتي به، وإنما أسقطه من بعده، ففيه وجه آخر: وهو أن يلحق الساقط في موضعه من الكتاب مع كلمة (يعني) كما فعل (الخطيب الحافظ)، إذ روى عن (ابن عمر بن مهدي)، عن (القاضي المحاملي) بإسناده، عن (عروة)، عن (عمرة بنت عبد الرحمن) -تعني عن عائشة - أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليَّ رأسه، فأرجله. قال الخطيب: كان في أصل ابن مهدي (عن عمرة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليَّ رأسه) فألحقنا فيه ذكر عائشة إذ لم يكن منه بدّ وعلمنا أن (المحاملي) كذلك رواه، وإنما سقط من كتاب شيخنا (أبي عمر)، وقلنا فيه (تعني عن عائشة رضي الله عنها) لأجل أن ابن مهدي لم يقل لنا ذلك، وهكذا رأيت غير واحد من شيوخنا يفعل في مثل هذا. ثم ذكر بإسناده عن (أحمد بن حنبل) رضي الله عنه قال: سمعت وكيعاً يقول: إنا لنستعين في الحديث ب (يعني) قلت: وهذا إذا كان شيخه قد رواه له على الخطأ. فأما إذا وجد ذلك في كتابه، وغلب على ظنه أن ذلك من الكتاب لا من شيخه، فيتجه ههنا إصلاح ذلك في كتابه وفي روايته عند تحديثه به معاً. ذكر (أبو داود) أنه قال: (لأحمد بن حنبل): وجدت في كتابي (حجاج عن جريج عن أبي الزبير) يجوز لي أن أصلحه (ابن جريج) ؟ فقال: أرجو أن يكون هذا لا بأس به، والله أعلم. وهذا من قبيل ما إذا درس من كتابه بعض الإسناد أو المتن فإنه يجوز له استدراكه من كتاب غيره، إذا عرف صحته وسكنت نفسه إلى أن ذلك هو الساقط من كتابه، وإن كان في المحدثين من لا يستجيز ذلك. وممن فعل ذلك (نعيم بن حماد) فيما روى عن (يحيى بن معين) عنه. (129) قال (الخطيب الحافظ): ولو بين ذلك في حال الرواية كان أولى. وهكذا الحكم في استثبات الحافظ ما شك فيه من كتاب غيره أو من حفظه، وذلك مروي عن غير واحد من أهل الحديث، منهم (عاصم)، و(أبو عوانة)، و(أحمد بن حنبل). وكان بعضهم يبين ما ثبته فيه غيره، فيقول (حدثنا فلان وثبتني فلان) كما روي عن (يزيد بن هارون) أنه قال: أخبرنا عاصم وثبتني شعبة، عن عبد الله بن سَرْجِس. وهكذا الأمر فيما إذا وجد في أصل كتابه كلمة من غريب العربية أو غيرها غير مقيدة، وأشكلت عليه، فجائز أن يسأل عنها أهل العلم بها، ويرويها على ما يخبرونه به. روي مثل ذلك عن (إسحاق بن راهويه)، و(أحمد بن حنبل)، وغيرهما رضي الله عنهم، والله أعلم. و(لمسلم) صاحب الصحيح مع هذا في ذلك عبارة أخرى حسنة مثل قوله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج، كلاهما عن أبي خالد، قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش.. وساق الحديث. فإعادته ثانياً ذِكْر أحدهما خاصة إشعار بأن اللفظ المذكور له. وأما إذا لم يخص لفظ أحدهما بالذكر، بل أخذ من لفظ هذا ومن لفظ ذاك، وقال (أخبرنا فلان وفلان، وتقاربا في اللفظ، قالا: أخبرنا فلان) فهذا غير ممتنع على مذهب تجويز الرواية بالمعنى. (130) وقول أبي داو د - صاحب السنن - (حدثنا مسدد وأبو توبة -المعنى - قالا: حدثنا أبو الأحوص) مع أشباه لهذا في كتابه - يحتمل أن يكون من قبيل الأول، فيكون اللفظ لمسدد ويوافقه أبو توبة في المعنى. ويحتمل أن يكون من قبيل الثاني، فلا يكون قد أورد لفظ أحدهما خاصة، بل رواه بالمعنى عن كليهما، وهذا الاحتمال يقرب في قوله (حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل - المعنى واحد - قالا: حدثنا أبان). وأما إذا جمع بين جماعة رواة قد اتفقوا في المعنى، وليس ما أروده لفظ كل واحد منهم، وسكت عن البيان لذلك، فهذا مما عيب به (البخاري) أو غيره، ولا بأس به على مقتضى مذهب تجويز الرواية بالمعنى. وإذا سمع كتاباً مصنفاً من جماعة، ثم قابل نسخته بأصل بعضهم دون بعض، وأراد أن يذكر جميعهم في الإسناد ويقول (واللفظ لفلان) كما سبق: فهذا يحتمل أن يجوز كالأول، لأن ما أورده قد سمعه بنصه ممن ذكر أنه بلفظه. ويحتمل أن لا يجوز، لأنه لا علم عنده بكيفية رواية الآخرين حتى يخبر عنها، بخلاف ما سبق، فإنه اطلع على رواية غير من نسب اللفظ إليه وعلى موافقتهما من حيث المعنى، فأخبر بذلك، والله أعلم. وذكر (الحافظ الإمام أبو بكر البرقاني) رحمه الله في كتاب (اللقط) له بإسناده، عن علي بن المديني قال: إذا حدثك الرجل فقال: حدثنا فلان، ولم ينسبه، فأحببت أن تنسبه فقل (حدثنا فلان: أن فلان بن فلان حدثه) والله أعلم. وأما إذا كان شيخه قد ذكر نسب شيخه أو صفته، في أول كتاب أو جزء عند أول حديث منه، واقتصر فيما بعده من الأحاديث على ذكر اسم الشيخ أو بعض نسبه. مثاله: أن أروي جزءاً عن الفراوي فأقول في أوله (أخبرنا أبو بكر منصور بن عبد المنعم بن عبد الله (131) الفراوي قال (أخبرنا فلان). وأقول في باقي أحاديثه (أخبرنا منصور، أخبرنا منصور) فهل يجوز لمن سمع ذلك الجزء مني أن يروي عني الأحاديث التي بعد الحديث الأول متفرقة، ويقول في كل واحد منها (أخبرنا فلان قال: أخبرنا أبو بكر منصور بن عبد المنعم بن عبد الله الفراوي قال: أخبرنا فلان) وإن لم أذكر له ذلك في كل واحد منها، اعتماداً على ذكري له أولاً ؟ فهذا قد حكى (الخطيب الحافظ) عن أكثر أهل العلم: أنهم أجازوه. وعن بعضهم أن الأولى أن يقول (يعني ابن فلان). وروى بإسناده عن (أحمد بن حنبل) رضي الله عنه: أنه كان إذا جاء اسم الرجل غير منسوب قال (يعني ابن فلان). وروي عن البرقاني بإسناده، عن علي بن المديني ما قدمنا ذكره عنه. ثم ذكر أنه هكذا رأى أبا بكر أحمد بن علي الأصبهاني - نزيل نيسابور - يفعل، وكان أحد الحفاظ المجودين ومن أهل الورع والدين، وأنه سأله عن أحاديث كثيرة رواها له قال فيها (أخبرنا أبو عمرو بن حمدان: أن أبا يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي أخبرهم، وأخبرنا أبو بكر بن المقري: أن إسحاق بن أحمد بن نافع حدثهم. وأخبرنا أبو أحمد الحافظ: أن أبا يوسف محمد بن سفيان الصفار أخبرهم) فذكر له أنها أحاديث سمعها قراءة على شيوخه في جملة نسخ، نسبوا الذين حدثوهم بها في أولها، واقتصروا في بقيتها على ذكر أسمائهم. قال: وكان غيره يقول في مثل هذا (أخبرنا فلان قال: أخبرنا فلان، هو ابن فلان) ثم يسوق نسبه إلى منتهاه. قال: وهذا الذي أستحبه، لأن قوماً من الرواة كانوا يقولون فيما أجيز لهم (أخبرنا فلان: أن فلاناً حدثهم). قلت: جميع هذه الوجوه جائزة، وأولاها أن يقول (هو ابن فلان، أو: يعني ابن فلان) ثم أن يقول (إن فلان بن فلان) ثم أن يذكر المذكور في أول الجزء بعينه من غير فصل، والله أعلم. (132) ومما قد يُغفل عنه من ذلك ما إذا كان في أثناء الإسناد (قرئ على فلان: أخبرك فلان) فينبغي للقارئ أن يقول فيه (قيل له: أخبرك فلان). ووقع في بعض ذلك (قرئ على فلان: حدثنا فلان) فهذا يذكر فيه (قال) فيقال (قرئ على فلان قال: حدثنا فلان) وقد جاء هذا مصرحاً به خطأ هكذا في بعض ما رويناه. وإذا تكررت كلمة (قال) كما في قوله في كتاب البخاري (حدثنا صالح بن حيان قال: قال عامر الشعبي) حذفوا إحداهما في الخط، وعلى القارئ أن يلفظ بهما جميعاً، والله أعلم. وإذا أراد من كان سماه على هذا الوجه تفريق تلك الأحاديث، ورواية كل حديث منها بالإسناد المذكور في أولها، جاز له ذلك عند الأكثرين. منهم (وكيع بن الجراح)، و(يحيى بن معين)، و(أبو بكر الإسماعيلي)، وهذا لأن الجميع معطوف على الأول، فالإسناد المذكور أولاً في حكم المذكور في كل حديث، وهو بمثابة تقطيع المتن الواحد في أبواب بإسناده المذكور في أوله، والله أعلم. ومن المحدثين من أبى إفراد شيء من تلك الأحاديث المدرجة بالإسناد المذكور أولاً، ورآه تدليساً. وسأل بعض أهل الحديث الأستاذ (أبا إسحاق الإسفرائيني) الفقيه الأصولي عن ذلك فقال: لا يجوز. (133) وعلى هذا من كان سماعه على هذا الوجه فطريقه أن يبين ويحكي ذلك كما جرى، كما فعله (مسلم) في (صحيحه) في صحيفة همام بن منبه، نحو قوله: حدثنا محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق: قال أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة.. وذكر أحاديث، منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أدنى مقعد أحدكم في الجنة أن يقول له: تمن..)) الحديث. وهكذا فعل كثير من المؤلفين، والله أعلم. فلو أراد من سمعه منه هكذا أن يقدم الإسناد ويؤخر المتن ويلفقه كذلك: فقد ورد عن بعض من تقدم من المحدثين أنه جوز ذلك. قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف نحو الخلاف في تقديم بعض متن الحديث على بعض. وقد حكى (الخطيب): المنع من ذلك على القول بأن الرواية على المعنى لا تجوز، والجواز على القول بأن الرواية على المعنى تجوز، ولا فرق بينهما في ذلك، والله أعلم. وأما ما يفعله بعضهم من إعادة ذكر الإسناد في آخر الكتاب أو الجزء، بعد ذكره أولاً، فهذا لا يرفع الخلاف الذي تقدم ذكره في إفراد كل حديث بذلك الإسناد عند روايتها، لكونه لا يقع متصلاً بكل واحد منها، ولكنه يفيد تأكيداً واحتياطاً، ويتضمن إجازة بالغة من أعلى أنواع الإجازات، والله أعلم. (134) وروينا عن (أبي بكر الخطيب الحافظ) رحمه الله قال: كان شعبة لا يجيز ذلك. وقال بعض أهل العلم: يجوز ذلك، إذا عرف أن المحدث ضابط متحفظ، يذهب إلى تمييز الألفاظ وعد الحروف، فإن لم يعرف ذلك منه لم يجز ذلك. وكان غير واحد من أهل العلم إذا روى مثل هذا يورد الإسناد ويقول (مثل حديث قبله متنه كذا وكذا) ثم يسوقه. وكذلك إذا كان المحدث قد قال نحوه. قال: وهذا هو الذي أختاره. أخبرنا أبو أحمد عبد الوهاب بن أبي منصور علي بن علي البغدادي شيخ الشيوخ بها، بقراءتي عليه بها، قال أخبرنا والدي رحمه الله: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الصريفيني: أخبرنا أبو القاسم بن حبابة: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا عمرو بن محمد الناقد: حدثنا وكيع قال: قال شعبة: (فلان عن فلان مثله) لا يجزئ. قال وكيع: وقال سفيان الثور ي: يجزئ. وأما إذا قال (نحوه) فهو في ذلك عند بعضهم كما إذا قال (مثله). نُبئنا بإسناد عن وكيع قال: قال سفيان: إذا قال (نحوه) فهو حديث. وقال شعبة (نحوه) شك. وعن يحيى بن معين: أنه أجاز ما قدمنا ذكره في قوله (مثله) ولم يجزه في قوله (نحوه). قال (الخطيب): وهذا القول على مذهب من لم يجز الرواية على المعنى. فأما على مذهب من أجازها فلان فرق بين (مثله) و(نحوه) والله أعلم. قلت: هذا له تعلق بما رويناه عن مسعود بن علي السجزي: أنه سمع الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: إن مما يلزم الحديثي من الضبط والإتقان أن يفرق بين أن يقول (مثله) أو يقول (نحوه) فلا يحل له أن يقول (مثله) إلا بعد أن يعلم أنهما على لفظ واحد، ويحل أن يقول (نحوه) إذا كان على مثل معانيه، والله أعلم (135) قلت: إذا جوزنا ذلك فالتحقيق فيه: أنه بطريق الإجازة فيما لم يذكره الشيخ، لكنها إجازة أكيدة قوية من جهات عديدة، فجاز لهذا مع كون أوله سماعاً إدراج الباقي عليه من غير إفراد له بلفظ الإجازة، والله أعلم. وثبت عن (عبد الله بن أحمد بن حنبل) أنه رأى أباه إذا كان في الكتاب (النبي) فقال المحدث (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ضرب، وكتب (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال (الخطيب أبو بكر): هذا غير لازم، وإنما استحب أحمد اتباع المحدث في لفظه، وإلا فمذهبه الترخيص في ذلك. ثم ذكر بإسناده عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: يكون في الحديث (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيجعل الإنسان (قال النبي صلى الله عليه وسلم) قال: أرجو أن لا يكون به بأس. وذكر (الخطيب) بسنده عن حماد بن سلمة: أنه كان يحدث وبين يديه عفان وبهز، فجعلا يغيران (النبي صلى الله عليه وسلم) إلى (رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال لهما حماد: أما أنتما فلا تفقهان أبداً، والله أعلم. وكان جماعة من حفاظهم يمنعون من أن يحمل عنهم في المذاكرة شيء، منهم (عبد الرحمن بن مهدي) و(أبو زرعة الرازي)، ورويناه عن (ابن المبارك) وغيره. وذلك لما قد يقع فيها من المساهلة، مع أن الحفظ خَوّان، ولذلك امتنع جماعة من أعلام الحفاظ من رواية ما يحفظونه إلا من كتبهم، منهم (أحمد بن حنبل) رضي الله عنهم أجمعين، والله أعلم. قال (الخطيب): وكان (مسلم بن الحجاج) في مثل هذا ربما أسقط المجروح من الإسناد ويذكر الثقة، ثم يقول (وآخر) كناية عن المجروح. قال: وهذا القول لا فائدة فيه. قلت: وهكذا ينبغي إذا كان الحديث عن رجلين ثقتين أن لا يسقط أحدهما منه، لتطرق مثل الاحتمال المذكور إليه، وإن كان محذور الإسقاط فيه أقل. ثم لا يمتنع ذلك في الصورتين امتناع تحريم، لأن الظاهر اتفاق الروايتين. وما ذكر من الاحتمال نادر بعيد، فإنه من الإدراج الذي لا يجوز تعمده، كما سبق في نوع المدرج، والله أعلم. ثم إنه ما من شيء من ذلك الحديث إلا وهو في الحكم كأنه رواه عن أحد الرجلين على الإبهام، حتى إذا كان أحدهما مجروحاً لم يجز الاحتجاج بشيء من ذلك الحديث، وغير جائز لأحد بعد اختلاط ذلك أن يسقط ذكر أحد الراويين ويروي الحديث عن الآخر وحده، بل يجب ذكرهما جميعاً مقروناً بالإفصاح بأن بعضه عن أحدهما وبعضه عن الآخر. والله أعلم.
|